بقلم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم
في عام 1968 وأثناء سنوات دراستي في كلية مونز العسكرية في بريطانيا، احتجت لمراجعة أحد المستشفيات التخصصية، ولمفاجأتي كان طبيبي المعالج يتحدث العربية فعرفت أنه من أصلٍ عربي، وأن قدومه للعاصمة البريطانية كان حديثاً، فسألته عن حياته وإن كان ينوي البقاء طويلاً أم العودة قريباً لوطنه، فقال لي: وطني حيث لقمة عيشي.
بَقِيَت هذه الكلمة عالقةً في ذهني طويلاً، مع كل ما تحمله من تناقضاتٍ نفسيةٍ وفكريةٍ مع مفهومِ الوطن، وواقعٍ صعب يدفع بأفضل العقول في عالمنا العربي للاتجاه إلى كافة أصقاع الأرض بحثاً عن وطنٍ جديد وفرصٍ جديدة وآمالٍ حقيقية.
لعقودٍ طويلة عانت منطقتنا العربية والكثير من دول العالم الثالث مِن الدوران في حلقةٍ مُفرغةٍ وصعبة من الجهود التنموية، حيث تَصرِفُ هذه الدول الكثير من مواردها لتعليم وتخريج الكثير من المهندسين والأطباء والباحثين والعلماء أملاً في أن يساهموا في صنعِ واقعٍ أفضل، ولكن لصعوبة الواقع الذي يجدونه بعد التخرج تهاجر آلاف العقول إلى الدول المتقدمة بحثاً عن فرصٍ أفضل، لتبقى أوطانهم تدور في نفس الحلقة، ولتبقى البلدان المتقدمة هي المستفيد الأكبر من أفضل المواهب والعقول القادمة من هذه الدول.
لا نستطيع بأي حالٍ من الأحوال في هذه الظاهرة التي عُرفت بـ«هجرة العقول» أن نلوم من يهاجر بحثاً عن حياةٍ أفضل له ولعائلته، وبحثاً أيضاً عن بيئةٍ خصبةٍ تساعده على النمو والتطور واستغلال إمكاناته ومواهبه وقدراته بالشكل الأفضل والأمثل، ولا نلوم أيضاً البلدان المتقدمة التي فتحت أبوابها ومعاملها ومختبراتها ومستشفياتها لهذه العقول المهاجرة، فكل دولةٍ لها الحق الكامل في استقبال واحتضان من ترى أنه سيضيف شيئاً لتطورها وتقدمها وتطوير علومها واختراعاتها وخدماتها التي تقدمها لمواطنيها.
ومع المزيد من التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة أصبح العالم قريةً صغيرة، وتساقطت الحدود الجغرافية أمام المواهب، وزاد الطلب على أفضل العقول مع زيادة التنافس والتسابق بين الأمم والشعوب، وزادت هجرة العقول لأكثر من 30% خلال السنوات العشر الماضية فقط حسب إحصاءات الأمم المتحدة، كما دفعت الظروف الصعبة المزيد من العقول لطلب الهجرة بحثاً عن فرصٍ أفضل، ولكن الصورة ليست قاتمةً دائماً، والتاريخ لا يسير في اتجاهٍ واحد فقط، والعالم ليس مكاناً ثابتاً، بل إن سرَّ تجدد حضاراته هو في تغيره المستمر.
طالعنا دراسةٌ صدرت مؤخراً عمَّا يمكن أن نقول إنه بدايةٌ لكسر الحلقة وتغير الإتجاه في هجرة العقول، حيث أصدرت شركة «لينكد إنْ» – وهي أكبر تجمع إلكتروني مهني في العالم يضم أكثر من 300 مليون مهني في كافة التخصصات ومقرها الولايات المتحدة دراسةً عن هجرة العقول وحركتها بين مختلف دول العالم، حيث قاست الشركة عن طريق قاعدة مستخدميها حركة العقول والمواهب بين الدول ما بين دخولها وخروجها، ثم صنّفت أكثر من 20 دولة ما بين الرابحة والخاسرة في التنافس لاستقطاب هذه العقول، وكانت المفاجأة أن الدولة الأولى في العالم في استقطاب المواهب هي دولة الإمارات العربية المتحدة، كما جاءت أيضاً مجموعة من الاقتصادات الصاعدة في المقدمة مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية جنباً إلى جنب مع سنغافورة وسويسرا وألمانيا في الدول الأكثر استقطاباً للعقول، وكانت أكثر الدول المصدرة للعقول، حسبَ نفس الدراسة، هي إسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وآيرلندا. وكانت هجرة العقول إلى دول العالم الأول أقل من ثلث المجموع خلال فترة الدراسة التي غطت سنة كاملة من نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 إلى نوفمبر 2013، في حين استحوذت الدول الصاعدة على نصيبِ الثلثين.
ظاهرة هجرة العقول التي عانت منها الكثير من الدول أصبحت اليوم تأخذ اتجاهات عالمية مختلفة وجديدة، إتجاهات تتماشى مع تغير موازين القوى الاقتصادية، وتغير حجم ونوعية الفرص المتاحة وتغير حركة الإستثمارات وإتجاهات النمو العالمية.
ولا أقول في هذا المقال أو أزعم أن الصورة الكاملة قد تغيّرت، أو أن الدول المتقدمة تراجعت عن استقطابِ المزيد من العقول، فما زالت الكثير من الدول، وخاصةً في أفريقيا مثلاً، تعاني من هذه الظاهرة بشكلٍ كبير، وما زال أغلب عالمنا العربي بظروفه وصراعاته وتوتراته التي لا تنتهي بيئةً غير جاذبة بل وطاردة للعقول.
لكن ما أقوله هنا أنه يمكن للكثير من الدول الخروج من هذه الدائرة البائسة في هجرة العقول التي هي أساسٌ في التنمية، ويمكن لهذه الدول أن تفعل ذلك سريعاً، وحلول دولة الإمارات في المركز الأول عالمياً في استقطاب العقول – كنسبةٍ مئوية – يمكن أن يعطي نموذجاً يمكن البناء عليه أمام الكثير من الدول الأخرى، سواءاً في منطقتنا أو في قاراتِ العالم المختلفة.
لعل العامل الأول في استقطابِ العقولِ والمواهبِ هو خلق الفرص، وتوفير البيئة المثالية للنمو والتطور، وتوفير البيئة المثالية أيضاً للإستثمار وإدارة الأعمال، وتوفير أجواء عالية من الشفافية والحوكَمة الرشيدة وتَساوي الفرص أمام الجميع. ولعل حلول الإمارات في تقارير التنافسية في المركز الثالث عالمياً في الأداء الإقتصادي، والثاني عالمياً في سهولة ممارسة الأعمال، والأول عالمياً في الكفاءة الحكومية، يعطينا مؤشرات عن نوعية البيئة التي تبحث عنها مثل هذه المواهب والعقول. ولعل العامل الثاني الحاسم في حركةِ العقولِ والمواهبِ بين الدول هو جَودة الحياة. كانت نظرة الكثير من المواهب أن جودة الحياة في العالم المتقدم أفضل بكثير وخاصةً في مجالاتِ التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية والإلكترونية وغيرها، ولكن اليوم أصبحت الكثير من الدول تقدم مستويات من جودة الحياة أعلى بكثير مما تجده هذه المواهب في بلدانها، مما يسهل ويشجع بشكلٍ كبير قرار الإنتقال، حيث تتوفر الفرص الاقتصادية إلى جانب نمط حياة عالي الجودة. القدرة على استقطابِ أفضل العقول هي أحد النواتج الرئيسة لعمل الحكومات على تحسين ظروف المعيشة ونوعية الحياة في بلدانها، سواءاً لمواطنيها وللقادمين إليها، وعندما يكون هدف الحكومة تحقيق السعادة للمجتمع فتأكد تماماً أن السعادة مُعدية وجاذبة للمزيد من البشر.
لقد عانى عالمنا العربي من ظاهرةِ هجرة العقول، وما زالت الكثير من دُوَلِهِ أيضاً تعاني هذا النزيف المؤسف في أهم ما تملكه من ثروة، ولقد قلنا وكررنا دائماً أن تطوير الإدارة الحكومية هو أحد أهم مفاتيح تطوير قطاعات المجتمع كافة من صحةٍ وتعليم وبنيةٍ تحتية وبيئةٍ اقتصادية وإستثمارية، مما يخلق مناخاً مناسباً للمواهب كي تزدهر وتنمو وتبقى في أوطانها لتُطَوِّر وتتطوَّر، وتبني مجتمعها إلى جانب بناء حياةٍ طيبة لهم ولأسرهم.
أعتقد أننا ما زلنا في بداية الطريق، ولعل هذه الدراسة وغيرها من الدراسات تعطينا لمحة عن المستقبل وإتجاهاته، وعن التحولات القادمة وطبيعتها، وعن طبيعة المنافسة وقوتها بين الأمم والشعوب. والأمم العاقلة هي الأمم التي تؤمن بالإنسان وبقيمته، وبأن رأسمال مستقبلها الحقيقي في عقل هذا الإنسان وأفكاره وإبداعاته.
.